2014-12-25

وسائل التاريخ

 وسائل التاريخ
لكل علم مادتة المتوفرة بين يدية الا التاريخ , فأن مادتة هاربة باستمرار مع الزمن الهارب . انها الماضي . ولكن كيف يلتقط التاريخ هذا الماضي الذي لن يعود ابدا ؟ ما هي وسائلة في ذلك ؟ كيف يعيد المؤرخ بناء الامس ؟ مؤرخو العصور الحديثة , ولاسيما المعاصرة منها , محظوظون . انهم في عصر تدفق المعلومات . لديهم كل انواع الامكان التسجيلي لهذا " الزمن " التاريخي الذي يفر ثانية ثانية من يدي الانسان . لديهم الصور والوثائق والسجلات والاحصائيات والتسجيل المرئي والصوتي وشهود العيان بالالاف والكتابات , ولديهم الى هذا وذاك مناهج التحليل , والمعطيات التي لا تنفذ من انتاج مادي وفني وعمراني ومكتوب , ولديهم الى هذا كلة , الانتقال المكاني السهل الممكن والعلوم المساعدة العديدة . وثائق المؤرخ الحديث موفورة راهنة , بل انها ضخمة متعددة للدرجة التي تغرقة , وتجعل امكانياتة في استيفاء الاحاطة والالمام الشامل ضيقة محدودة , كما تجعل الدراسة عملا مرهقا , ضخما يحتاجالى مجموعات متعاونة من الدارسين 

 تناقص وسائل التاريخ 

ان هذا الامكان يتضاءل طردا كلما عدنا السنين القهقرى .ويشتد ضيقة حين نجتاز حاجز جوتنبرج واختراع الطباعة في القرن الخامس عشر . ثم يشتد هذا الضيق جدا حين نجتاز حاجز "الورق " وانتشارة في القرن الثامن . واذا وصلتا عصر اكتشاف الابجدية في القرن 16- 18 ق.م , صرنا نتلمس الطريق بالرموز . واذا تجاوزنا عصر الكتابة والقرون 30-35 ق.م , تجاوزنا التاريخ ودخلنا ما قبل التاريخ واصبحنا نتلمس المعرفة بالقرائن وبقايا الادوات والاساطير 
  هكذا لا تتماثل وسائل التاريخ بين عصر وعصر , او بلد وبلد . فلكل بلد , في كل عصر من العصور , مصادرة التاريخية المختلفة حسب الظروف التي حفظت تلك المصادر . المؤرخ ينطلق من البقايا المتوفرة ليعيد بناء الماضي . وهذة البقايا متفاوتة في الشكل والقيمة , وفي الكمية والوجود , وفي مقدار الثقة التي يمكن ان نمنحها لها . فللرواية في التاريخ جانب وللاثار جانب اخر .

التاريخ في الرواية :

  1. هناك اولا الرواية الشفهية ,وهي مادة التاريخ الاولية والدائمة . فقبل ان يعرف الانسان الكتابة وتنتشر طرائقها وادواتها السهلة , كان ايضا يروي تاريخه , وبرويه شفهيا . وتأخذ الرواية مع القرون شكل الاساطير . والمؤرخ اليوم يلجأ الى بقايا هذه الاساطير لمعرفة الماضي الاول الذي اندثر . هكذا مثلا يستنطق المؤرخون ملحمتي الالياذة والاوديسا عن المجتمع اليوناني الاقدم (1) , ويستخرجون من ملاحم المهابهاراتا والرامايانا والبورانا وكتب الفيدا في الهند ملامح تاريخها الاول , لان الاساطير تحاك حول نواة من الواقع , والتخيلات فيها تبنى من معطيات اولية مأخوذة من عصورها .
  2. وهناك الرواية المكتوبة , وهي مادة التاريخ الاساسية منذ وجدت الكتابة . المؤرخون الاقدمون هم الذين سجلوا في الواقع الشهادات والروايات الشفهية المتداولة التي اضحت اول سطور التاريخ . قوافل المؤرخين الى اليوم انما امجادهم هي تلك الكتب التي سجلوا فيها ما رأوا وسمعوا وقرأوا عن عصورهم والعصور السالفة
    التاريخ في الاثار والوثائق

    1.  الاثار , ويزداد شأنها في التاريخ كلما اوغلنا رجوعا في الزمن ,لتصبح في بعض الاحوال , وفي العصور القديمة خاصة , مصادر التاريخ الوحيدة . فالشعوب كلها , بدافع من العقائد الدينية في الغالب , او من رغبات الملوك او من الحاجيات الحياتية الاخرى , تركت اثارها على الارض التي عرفتها . وعلى هذة الاثار نبني معارفنا مثلا عن حضارات امريكا قبل كولومبس , وحضارات الهند والصين والفراعنة والرومان والاتروسكيين وشعوب افريقيا الزنجية , ونكتشف كل يوم جديد . وبعض النكبات الساعقة كأندثار بومبي تحت رماد فيزوف ( 79 م ) او تدمير نينوى الكامل (612 ق.م) , تعطي المؤرخ فرصتة الذهبية للوصول الى الكنوز من المعارف التاريخية . وتتراوح الاثار بين الابنية , وبين القطع الاثرية الفنية (2) ( تماثيل , نقوش , حلى ) , او ادوات العمل والحياة ( انية , اسلحة , ادوات , نسيج , نقود , بردي ) , وكلها مادة للتاريخ الانساني , بالاضافة الى ما تكشف عنة بعض الصور الاثرية من ملامح الحياة العامة التي لا يسجلها في العادة احد من القدماء (3) .
    2. الكتابات الاثرية , وهي وثائق العصور القديمة . فمعظم الحضارات السلفة سجلت على اثارها ما تريد قولة , بكتابات شتى (4) . حين حل شمبوليون رموز الهيروغلوفية , اضاف الى التاريخ ثلاثة الاف سنة (4) . والكتابات التي استعصت على الحل ( مثل كتابة كريت ) ما تزال تحتفظ بأسرار التاريخ . قبل حل رموز الكتابات القديمة , كان الناس يخترعون التاريخ اختراعا بالاساطير والوهم حول الاثار (5) .
    3. الوثائق, وهي تجمع السجلات والصكوك والمراسلات . واذا كانت نادرة في العصور القديمة او قليلة نسبيا في العصور الوسطى , فهي فيض هائل لدى المؤرخ الحديث . عدا هذا كلة , يستفيد التاريخ الان من كشوف الانثروبولوجيا والسيكولوجيا وعلم الاجتماع وعلوم الاقتصاد والاحصاء والفولكلور والطب وغيرها من العلوم . ان التاريخ يحاول بذلك كلة ان يحتضن الانسان بكل ابعادة شريطة ان يعرف المؤرخ كيف يستنطق تلك الوسائل وهذة العلوم .


    (1) هوميروس , الشاعرالاغريقيالضرير , كان من  اهل القرن السابع او السادس قبل الميلاد ,ينظر الية على انة مؤلف الملحمتين المشهورتين الالياذة والاوديسا .تتنازع سبع مدن ايطالية شرف ولادتة فيها . ليس يعرف شئ عن تاريخ حياتة . القصص المتوارثة تصورة شيخا اعمى يطوف من مدينة الى اخرى منشدا الاشعار . منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم طرحت مئات الفرضيات حول تاريخ الاعمال الشعرية التي تنسب الية . وحول صحة نسبتها وحول عماة . الاغريق يعتقدون ان الالة توحي للعميان , فمعظم شعرائهم كذلك . من المظنون انة ليس بصاحب التراث الشعري المنسوب لة ولكنة كان الراوي لة 









    (2) الادوات التي يعيد الاثريون بنائها , كرأس القيثارة الذهبية هذة ( أ ) التي

     وجدت في اور ويرجع عهدها الى حوالي سنة 2600 ق . م والموجودة حاليا 

    في المتحف البريطاني , والعقود ( ب ) وفص الخاتم الذهبي ( ت ) التي

     وجدت منذ امد قريب في بعض الحفائر في كريت من الحضارة المينوية , وهذةالفخاريات ( ث ) ومثلها كثير في مختلف الحضارات , كل هذة وتلك من الادوات والحلى واللقى الاثرية , هي من ادوات التاريخ . المؤرخ من خلال مادتها ,اتقانها الفني ,معناها , مكان وجودها ,يبني هيكل المعرفة التاريخية .علية منخلال هذا الفتات الميت ان يبني مسيرة الحضارة والحيا

    ( 3 ا ) ندر ان تحدث المؤرخون , قبل العصور  الحديثة , عن الحياة العامة وعن تقاليد المجتمع واساليب الزرع او شكل الملابس او طرق تصفيف الشعر . كان الناس يمارسون ذلك دون ان يسجلوه . اهتماماتهم كانت تنصب على المعبودات والملوك والامراء والنكبات والاحداث  العظمى والنوادر الغريبة . هنا تأتي الصور الاثرية والمنحوتات لتسد الثغرة وتكشف طرق العيش في العصور الاولى . الفرقة الموسيقية المصورة ( ا ) في مقبرة امنمحت في طيبة ( الاسرة 18 ) ولوحة الصيد ( ب ) من فسيفساء القرن الثالث الميلادي في توجا
    ( 3 ب )
    ( 4 ا )
    اشتهرت الكتابة المسمارية (ا) في الشرق القديم لان عدة لغات لعدة شعوب كتبت بها . كما اشتهرت الهيروغلوفية . الكتابتان اساسهما تصويري . وكتب بهما كل تاريخ الشرق القديم قبل اكتشاف ابجدية اوغاريت . ظلت الهيروغلوفية طلاسم مبهمة حتى اكتشف حجر رشيد سنة 1799 م (ب) وعلية 3 كتابات ( في 3 لغات ) هي الهيروغلوفية واليونانية والديموطيقية . النص يسجل مرسوما بتكريم بطليموس الخامس . استطاع شمبليون الفرنسي , بمقارنة نصوص الكتابتين المعروفتين مع الثالثة المجهولة . ان يكتشف الكتابة الهيروغلوفية ويضيف اكثر من 3 الاف سنة الى تاريخ الانسانية 

    ( 4 ب )



















    ( 5 )













    كانت الاثار على الدوام تحديات للجماعات البشرية التي تعيش بينها . وغالبا ما كانت موادها تستخدم لمارب انية اخرى . النقوش التي كانت تحملها - كما في مصر والشام والهند - كانت تحمل مع الايام معاني السحر والطلاسم . هكذا كان الناس يبنون للاثار تاريخا من الوهم والاسطورة يفسر وجودها . وخاصة حين تكون ضخمة مثل الاهرام وابي الهول واثار تدمر . لدينا عدد من المؤلفات عن "عجائب الاهرام " وعشرات الاخبار عن الجن الذين بنوا تدمر لسليمان , وعن الاسوار التي بنوها الالهة في اليونان .

    ليست هناك تعليقات:

    إرسال تعليق